العشاء الأخير .. بين العزلة والسخط
الوجودي
قراءة نقدية
محمد حسين
لأول وهلة ونحن نمسك بهذا النص بين أيدينا ،
يتداعى إلى أذهاننا السيد المسيح وحواريوه ، وذلك الوفاء وتلك الروابط القوية التي
تربط بينهم ، ويقفز إلى أعلى الكادر وجه
" يهوذا " ، وذلك الهاجس اليقيني لدى السيد المسيح .. ونشتمُ
رائحة الخيانة ، ويلوح في الأفق شبح الموت وكلام السيد المسيح إلى أصحابه وحوارييه
.. وشرائح الفطير والنبيذ .. " هذا لحمي فكلوه ، وهذا دمي فاشربوه " ..
العشاء الأخير .. هكذا كان عشاؤه الأخير .. تلك تداعيات تتسرب إلينا رغماً عنا ،
فهل يا ترى سنجد شيئاً من هذا في مسرح " سعيد حجاج " ، وبالتحديد في
مسرحيته التي تحمل نفس الاسم " العشاء الأخير " ؟ ، والتي صدرت مؤخراً
عن اتحاد الكتاب المصري ، ضمن سلسلة " كتاب الاتحاد " ويحتوي الإصدار
على خمس مسرحيات لـ " سعيد حجاج " وهي
( العشاء الأخير ، غسيل مخ ، فانتازيا السقوط ، عباس و سوناتا ) .
ولأول
وهلة لنا مع هذا النص نجدنا أسرى للزمن بكل تفاصيله ، حيث نجده وقد ترك بصماته على
كل شيءٍ حولنا ، حيث يشير المؤلف إلى أن الديكور ينم عن ذوقٍ قديمٍ جداً " صالون من الطراز القديم .. تحف .. باب
الشقة العتيق .. فستان قديم زاهي اللون " وكلها تفاصيل تضعنا في قبضة الزمن ،
ويعزز ذلك حركة الشخصيات البطيئة جداً [ أمينة و حكمت ] والتي ترشح أيضاً لتقادم
الزمن وسيادته وأثره على الشخصيات من الناحية الفسيولوجية والجسمانية قبل كل شيء .
ثم يبدأ عالم أشبه بعالم " تشيخوف "
أحياناً حيث الثرثرة الدرامية – الواعية والمقصودة – وعالم " سترندبرج "
أحياناً أخرى حيث الولوج شيئاً فشيئا إلى عوالم الشخصيات الداخلي لنراه عن كثب ،
وعالم العبث أحياناً أخرى حيث الشعور بـ " العزلة " والتنقل غير
المنطقي من موضوع لآخر دون رابطٍ أو دافعٍ منطقي أو حدثي ، وإنما هي تداعيات
تتقافز إلى أذهان الشخصية ، فكل من " أمينة " و " حكمت "
الصديقتين تحاول التواصل مع الآخر في صورة صديقتها ... كلتاهما تحاول تجاوز "
الزمن " – الذي توقف تماماً حيث الساعات التي لا تعمل منذ زمن بعيد – فكلتاهما
تحاول خلق ذلك الزمن الخاص بها والتواصل مع الأخرى لتأكيد وجودها بعدما
فُرضت عليهم " العزلة " فرضاً دون إرادةٍ منهما ، فلا علاقة لهما
بالعالم الآخر سوى عن طريق اجترار الذكريات ، ومحاولة التواصل عبر الآخر ، ولكنهما
تفشلان في ذلك أيضاً ، حيث تتباعد المسافات بينهما بين وقتٍ وآخر أو بين لوحة
وأخرى ، وتتباعد الجدران - كما يشير المؤلف – وتزداد القتامة شيئاً فشيئا لنكتشف
أنهما كلما أوغلتا في تداعياتهما ، كلما تباعدت الفُرقة والعزلة بينهما ، وكلما
اكتشفنا أن مشاعرنا تجاه الآخر ليست حقيقية ، وإنما هي قناع من أقنعة العصر الحديث
/ يهوذا ، وترديد آخر لأزمة الإنسان الوجودية الذي لا يعرف نفسه حق معرفتها
.. لنصل شيئاً فشيئا إلى العزلة فكل من " حكمت " و " أمينة "
لا تتواصلان ، وذلك أيضاً بفعل واحدة من آثار الزمن ، وهو ضعف السمع لدى "
أمينة " واسترسالها في كلمات - خارج سياق اللحظة الدرامية - والتي لا تحقق
لها التواصل مع الآخر / " حكمت " .
الوجود الجبري والشعور بالتيه
منذ اللوحة الأولى يشير المؤلف " سعيد حجاج " إلى ضرورة
إمكانية تحريك الحوائط والجدران المكونة للمنظر المسرحي / الوجود الدرامي ، بحيث
يمكن التصرف فيها وتحريكها بين لوحةٍ وأخرى . وبالفعل نجدها في كل لوحة تتباعد
وتتسع ليتسع معها الفضاء المسرحي / الوجود ويتباعد ، وتتباعد معه المسافات الفارقة
بين الشخصيات ، وتزداد القتامة والفُرقة بينهما وتنعزل كل واحدة منهما في عالمها
الخاص الذي لم تستطع التكيف معه والذي يزيد من مرارتها الوجودية وشعورها بالوحدة
وعدم الانتماء والتيه في ذلك الوجود المحيط بها .. حتى الذكريات / الماضي الذي
يبدو أحياناً أكثر جمالاً بعض الشيء من الحاضر المعاش لدى الشخصيات ، حيث تشير إلى
ذلك " أمينة " في المشهد الثاني قائلة : [ حاجة زمان كلها ما
تتعوضش ] أقول .. إن ذلك الماضي وتلك الذكريات التي تجتراها هي أيضاً مصدر
من مصادر الألم والعذاب لديهما ، سواء في علاقتهما بالرجل – كما هو الحال مع
" حكمت " – حيث العجز وعدم القدرة على الإنجاب / الاستمرارية / التواصل
، ناهيك عن انعدام الحب بينهما ، حيث نراها تجتر ذلك في مونولوج داخلي حيث تقول :
" ولا على رأيك كنا بنتجوز غصبا عننا لو مش علشان الملل يبقى علشان مانعنسش ولو مش علشان مانعنسش يبقى علشان
السترة ولو مش علشان السترة يبقى علشان
أهالينا خايفين من عار البنات ولازم نبقى زي مخاليق ربنا واهو العمر فات
والواحدة ما عرفتش طعم
السعادة هو كمان ما كانش مبسوط بس كان لازم
يحافظ على البيت والعفش اللي جابه ودفع فيه شقى عمره .. وأنا علشان ما أرجعش لأهلي
مطلقة والناس تقول عملت وسوت .. كنا بنضحك قدام الناس وكنا
نمسك أيد بعض علشان ماحدش يحس بينا ويشمت .. أنا
عمرى ما كنت مبسوطة أبدا .. أبدا يا أمينة" .
أذن فهي تحيا وجوداً إجبارياً فُرض عليها فرضاً ولأسبابٍ اجتماعيةٍ
قاهرةٍ لذاتها ولرغبتها . ومن هنا فهي لا تشعر بالانتماء إلى ذلك العالم وهذا
الوجود . وكذلك الحال بالنسبة لـ
" أمينة " سواء في علاقتها بالزوج ، حيث الشجار الدائم والمستمر
كما تشير في مونولوجها الداخلي " كل يوم خناق على مصروف البيت ، خناق على
هدوم العيال , خناق على التلاجة الفاضية ومافيهاش لحمة .. ع الأيام الباردة ومافيهاش دفا , والعيال زهقت من الخناق وطفشت .. ناقصين تربية
واحنا كنا هنربي
ولا هنتخانق ..بس أنا أنتقمت .. بعد ما مات بعت
كل قشة
من حاجاته ما خليتش ولا صنف حاجة من ريحته
الوسخة حتى الورود اللي كانت
وسط الكتب من أيام الشباب أديتها للزبال يأكلها
للخنازير " .،
أو في علاقتها بالأولاد حيث الاغتراب البين والفُرقة الشاسعة بينها وبينهم حتى
أصبحت وحيدة في مكانٍ كالقبر " شقة
بقت زي القبر والعيال زي ما جم زي ما راحوا .. اللي
هاجر واللي أتجوزت واللي ...... والله ما أنا
فاكرة الباقي راحوا فين ؟ مش يبقى الموت أهون ؟" . وهنا أول إشارة إلى " الموت " /
اللاوجود !!
كل تلك المرارة
والانعزالية التي تعاني منها الشخصيات يصاحبها تمادي في الفضاء المحيط بهما ، حيث
يتسع العالم من حولهما وتزداد البرودة والقتامة ، وهما كما هما عاجزتان حتى عن
الحركة بفعل الزمن والعجز البدني والمرض .. فهما مجرد شيء في عالمٍ فسيحٍ لا
متناهٍ لا تنتميان إليه ، أو هكذا تشعران ، فكل شيء من حولهما يصيبهم بالغثيان ..
الراديو الذي لم يعد يجلب لهم سوى الأخبار السيئة عن العالم الخارجي من حروبٍ
وسرقاتٍ وحوادث ودجلٍ وادعاءٍ للنبوة .. الخ . إذن فالوجود بشقيه الماضوي ، حيث
الذكريات ، والآني ، حيث التواصل المفقود بينهما والزمن المتوقف بالنسبة لهما ،
هذا الوجود لا يجلب لهما سوى الشقاء والحزن والأسى ويدفع بهما إلى التمادي في
العزلة والتقوقع داخل الذات ، بينما العالم من حولهما يزداد تيهاً واتساعاً وسوءاً
[ وزي ما يكون العالم فاضي من حوالينا مافيهوش غير صوت مكن وقنابل وبس
] .
ظلال الموت تلوح بالخلاص وتشي بتحقق الوجود
وهنا يصبح الموت هو الخلاص المُشتهى وتلوح ظلاله في الأفق. [ جوزي كان على حق لما قال لي إيه رأيك يا أمينة
أقتلك وأنا بأطلع في النفس الأخير ولا إنت تقتليني وإنت بتطلعي في النفس الأخير .. بالشكل ده ما حدش يسيب التاني لوحده في الدنيا ] / هذا لحمي فكلوه .. وهذا دمي فاشربوه .. كلمات
السيد المسيح لحوارييه .. وكأن " أمينة " هنا تعطي لصديقتها المفتاح
للخلاص والتخلص من عذابات الوجود ، وتقرر " حكمت " إنهاء تلك
المأساة الوجودية لكليهما فتقرر أن تدس السم لصديقتها في الطعام وتحاول أن توغل
صدر أمينة عليها حتى تدفعها دفعاً كي تطعنها بسكين قبل أن تموت وبذا تنهي حياتهما
معاً بصورة تذكرنا بمسرحية " الكسندر
بوشكين " ( موزارت وساليري ) وذلك القتل المغلف بالحب وبالرغبة
الميتافيزيقية. وفي المشهد الرابع تقوم " حكمت " بإعداد الطعام المسموم
لـ " أمينة ولها / شرائح الفطير ونبيذ السيد المسيح / وجه يهوذا .. وهي بهذا
تنهي حياتها وتقتل الآخر / " أمينة " وتتخلص من عذاباتها وتخلص الآخر من
عذاباته ، وتنهي بإرادتها ذلك الوجود الجبري الذي هو مصدر العذابات لكل منهما .
وينهي المؤلف مسرحيته
بمشهد غاية في السخونة والقسوة والبراءة والدلالات المتراكمة ، حيث الجدران التي
صارت بعيدة جداً / الشعور بالجفاء والتشيؤ داخل الفضاء الممتد والفسيح ، والفستان
القصير ملقى على المنضدة وبجواره كومة القصاقيص / الحلم الممزق بالحياة كما نريدها
، ومنضدة الطعام وما زالت مشغولة بالأطباق المتسخة / السم / الفوضى والموت الذي
يسود المكان ، ونجد المكان يوحي بالقذارة / ذلك العالم القذر والوجود الذي يحيط
بالشخصيات ، وبالرغم من ذلك تعود الشخصيات – وهي تحتضر – إلى براءتها التي لم تظهر
إلا مع الموت / التخلص من الوجود . وتقترب الشخصيات من بعضهما البعض لحظة الموت
وهي اللحظة الوحيدة التي كانتا فيها صادقتين .. [ حكمت : اللي نفسي فيه إننا نموت إحنا الاتنين ولا كأننا
كنا عايشين هنا قبل كده ..ولا كان لينا حياة ولا ذكريات ولا لينا حاجة خالص ] . تتحرك شفتاها وهي ناظرة للمطلق بينما أمينة
تهذي بكلام غير مفهوم في همس " وتعلو الموسيقي .... لم تستطع الحياة أن تقرِّب
بين روحيهما ، ولكن الموت قرِّب بينهما ، وهو ملمح من ملامح المسرح في الشرق ،
وبالتحديد المسرحيات الصينية واليابانية حيث فكرة التوحد عند الموت !!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق