الثلاثاء، 21 نوفمبر 2017

هذه المدينة الفاضلة وأسرارها الدفينة - دراسة في مسرح سعيد حجاج



 هذه المدينة الفاضلة وأسرارها الدفينة
دراسة بقلم د. حسن عطية



قديماً قال الحكماء (ما الثور الضخم إلا مجموعة من الخراف المهضومة) وحديثاً ابتكر النقاد مصطلح (التناص) للتأكيد على أنه لا يوجد نص أدبي، مهما كانت درجة ابتكاره الخالصة، إلا ويحتوي وتتداخل معه العديد من النصوص السابقة عليه والمتزامنة معه, والأفكار التي طرحت قبله وخلال صياغته فالمبدع المثقف لم يتكون من فراغ، ولا يبدع في صحراء قفر، بل هو يبدع متأثراً برفاق الأمس وتجليات إبداعهم على المستوى الإنساني، ومشاركاً رفاق إبداع اليوم في مناقشة هموم عصرهم ومجتمعهم، وطرح القضايا التي يعيشونها ليدلي بدلوه فيها.
وتشكل المدن الفاضلة حلماً غائراً في ذاكرة الإنسان الخصبة، يطفو على السطح بين الحين والآخر، ليكشف عن ذلك الخلل الواقع بين ما يعيشه المرء وما يهفو للعيش فيه، ويختار المجتمع نفراً منه يحملهم مسئولية التعبير عن ذلك الحلم وتقديمه في ثياب فنية متمردة، وبطبيعة مفارقة الحلم للواقع، على كل ما هو سائد ومتموضع على أرض الواقع، مما يكشف بدوره عن قدر من التماثل والمخالفة بين الفن والواقع، فالعمل الفني هو صورة متماثلة مع الواقع فكراً وبناء، لكنه في ذات الوقت صورة متكاملة لواقع ناقص، صورة أخرى على إجابة صاحبها على أسئلة الوجود والمعرفة، بينما ما زال الواقع بطرح أسئلته دون إجابات شافية، مما يجعل من الفن –الفن الحقيقي- صورة أرقى من الواقع، ويضع على كاهل الفنان مسئولية المشاركة في تقديم رؤيته لتغيير واقعه، ودفع مجتمعه نحو المسار الصحيح، أو الذي يراه صحيحاً، للتقدم المنشود، ومن ثم فإن القول بأن الفن يكتفي بطرح الأسئلة، والتمحك بأن ما في فن قد غير يوماً نظاماً، هو من قبيل تزييف دور الفن، وتغييب وعي المتلقي، فالفن هو القدرة على القدرة على طرح أسئلة الواقع، وتقديم الأجوبة عليها لجمهوره المتلقي، والذي قد يقبل تلك الأجوبة أو يرفضها، ولكنه دوماً في انتظار أجوبة ما من العمل الذي يتلقاه، ليتجادل معها، وليرى مدى قربها أو بعدها عما يحلم هو به، ويصبو إليه.
من هنا يتجلى الفن كقناع جمالي يتخفى الفنان خلفه ليقدم رؤيته للعالم والتي قد تكون مساعدة على تغيير واقعه، أو دافعة به للتجمد عند لحظة زمنية محددة، ونظام اجتماعي معين، أو عاملة على نفيه في الزمن الماضي، بحجة أن الماضي كان أكثر تكاملاً من ذلك الحاضر الناقص بطبيعته، ومن أيضاً يبرز الكاتب الشاب (سعيد حجاج) صاحب الوجه الصموت والصوت المنخفض والحركة الهادئة والجسد النحيل، والذي يخفي خلفهم، وعبر أعماله الفنية، قدراً هائلاً من التمرد الصارخ في وجه المجتمع، والرغبة العارمة في تحطيم الكون وإعادة صياغته من جديد، تتسلل المرارة لنفسية شخصياته، ويتخلخل البناء الفني لمسرحياته، مجسداً لبناء اجتماعي مخلخل ومرشح للتداعي، لذلك فأعماله صادمة للغالبية من متلقيه، خاصة في عروضنا المسرحية التقليدية، التي اعتاد جمهورها منها تقديم الأجوبة لأسئلة بسيطة ليس بحاجة لها، وتطرح غالباً داخل أجواء منسقة ومتماسكة ونظيفة دوماً، بينما تدور مع معظم أعمال كاتبنا تحت ركام البيوت القديمة، وتحت سطح الأرض، وفي الصحراوات القاحلة، ووسط أجواء خانقة، وداخل دوائر محاصرة، مما يولد لدى المتلقي إحساساً بالضيق وعدم الراحة، ويؤكد على صدامية العلاقة بين ما يبدعه (سعيد حجاج) متلقيه، خاصة وأن شخصياته الدرامية تعاني من شعور طاغ بالعزلة وعدم الانتماء أو على أقل تقدير عدم التكيف مع العالم الذي تعيشه، شعور لو دفن لأنفجر صاحبه، لذلك فلابد لنا من أن نفتح له من مبدعه نافذة للتعبير.
وهو ذاته ما يحدث في مسرحيته المسماة (يوتوبيا)، والتي تدور حول فكرة المدينة الفاضلة. التي يصنعها أحدهم، ويعلن بإحدى الجرائد عنها، وينسحب الناس إليها بحثاً عن الخلاص من واقع متردي فيكتشفون أن صاحبها قد وضع لها قوانينها الخاصة، والتي تستعصي على القبول عند البعض، وأسرارها الدفينة لا تكشف إلا عن أن مدينة (المثال) لا تختلف عن مدينة (الواقع)، فصاحبها هو واضع دستورها، ومطالب الكل بالامتثال لأوامره، ومن ثم صارت مدينة الخلاص هي مدينة الموت حياً، وتحقق التماثل بين الفكرة المتمحورة حول شخصية المستبد العادل، والموضوع (التيمة) الدائر تحت الأرض، وفي أجواء عالم الموتى، ذلك العالم الذي هبء إليه (أورفيوس) منذ الإغريق وأسطورة الحب الخالدة التي تدفع بالمحب للهبوط لمملكة الموت (هاديس)، سعياً لإعادة محبوبته (أوريديسي) مروراً بالأعمال التي تناولت تلك الأسطورة على يد الإسبانيين (لوبي دى لا بركا) الفرنسي (جان كوتو) وصولاً إلى الأمريكي (تينسي ويليامز) في العقود الأخيرة من القرن الماضي.
يبدأ العالم في هذه المسرحية محدداً بين لونين لا ثالث لهما أو بينهما وهما الأبيض والأسود، ورغم هيمنة اللون الأسود، كمعادل مرئي لحالة اليأس المسيطرة على واقع مفتتح الحدث الدرامي، فإن اللون الأبيض لا يتلاشى ولا يغيب لحظة السواد القائم، بل يشكل (حواف) المهمات المسرحية وقطعه الديكورية، مما يجعل للحواف البيضاء انعكاساً أكبر على الصفحة السوداء المتضخمة، ويبدأ الحلم من الرجل (2) بانتظار الفارس المخلص المنتظر لإزالة الظلمة ورفع السواد لكي يرى البشر ضوء الحياة، ويعيد الدماء للحلم (العجوز)، ويصبح القلب صافياً، ذلك الحلم القديم (الذي حلم به عبد الصبور في أحلام الفارس القديم)، والذي مثله فارس آخر يوماً، كان كالنسمة تزيل الحزن عن القلب المثقل بالهموم، لكنه ضاع أو اغتالته يد الظلمة، وصار شهيد الحق المغبون.
يقطع هذا الحلم، الذي يبدو كهذيان رجل متردد، حوار أكثر هذياناً حول انتحار ذلك الفارس الذي كان، والذي تناول مادة البوتاس الكاوية ليحرق لسانه، الذي لم يساعده في معركته ضد فساد الواقع وعمليات تزييف التاريخ، فيد كان ضد (الموت) والخنوع والهزيمة، وأراد أن يعمل العالم درساً غير واضح المعالم، ثم وقع أسيراً في معركة غير معلن عنها واقتيد لساحة الإعدام رمياً بالرصاص، وساوموه على بيع الوطن فرفض وهرب، ثم صار متسكعاً وحيداً بالشوارع، كما تحول الحالمون به لدمى تحركها كلمات طنانة ترددها الأغاني البلهاء عن جمال الحياة وحلاوتها، وهو موقف كما نرى أشبه بمواقف مسرح العبث عن بيكيت بالذات: الانتظار اللا مجدي، وإن انتهى المشهد بحالة حركة بحثاً عن ذلك الرجل القادر على إزالة الحزن –والحزن وحده- من على وجه العالم، وسعياً نحو المدينة الفاضلة المرجوة.
خلاصاً من هذا الحزن المهيمن على العالم، تنقلنا المسرحية لعالم القبور، عالم الموت بشكل فانتازي، الهبوط لعالم هاديس، والذي يتحول فيه البشر إلى مجرد أرقام، بلا ذاكرة، بال وجود إنساني، فالوجود الإنساني المفارق لأي وجود آخر تميزه الذاكرة، والتحول إلى رقم يعني الترقم أو التشيؤ، مما يفقد الإنسان ذاتيته، ويمسخ نوعيته كإنسان، ويصيّره كما مشابهاً لكل كم آخر، وهو ذاته ما كان في مملكة الحياة، فنحن لا نعرف عن السيد (1) والسيد (2)، غير كونهما السيد (1) والسيد (2)، في المملكتين معاً، وكأن مملكة الموت هي امتداد لمملكة الحياة التي أصبحت الثانية شبيهة بالأولى، وليست نقيضاً لها كما كان يتمنى من وافق راضياً على الانضمام إليها، وجاء الهبوط رغبة لتفريغ شحنات الحزن والحصول على الموعظة الحسنة.
في مملكة الموت، مدينة الهدوء والكفن الأبيض اللامع، يضع الزعيم، السيد (1) دستورها والذي ينص على مجموعة من النواهي، ويطالب الممتثلين له بضرورة تغيير الجلد والاسم والهوية، فضلاً عن عدم الأكل، وعدم ركوب المواصلات، مما يخلق تبايناً في ردود أفعال شخصيات المسرحية، فهي ما زالت بعد تحمل صفاتها الإنسانية، حيث يرفض السيد (2) الامتثال الكامل لذلك الدستور غير الإنساني مقابل السيد (3)، ذلك الرجل الذي رأى بعينيه من يقتل قرية كاملة بالرشاش ويقيم لقتلاه صلاة جنائزية، فلم يمتلك من رفضه لما رأه غير الشجب والرفض الداخلي وكتابة قصيدة استنكار، وأن يترك المكان الذي يسوده الظلم والرعب، ويأتي للملكة الموت، ليمثل لديكتاتور آخر أكثر بطشاً بالطبيعة الإنسانية للبشر، ومقابل أيضاً السيد (4)، الهارب من معارك الخارج، ليجد أن الداخل مليء بالمعارك أيضاً، وهو رجل أناني لا يهمه شيء سوى ذاته، ولا يرغب في التضحية من أجل أحد، أو أن يكون قدوة لأحد، وعند الحديث عن نظام الحكم تنفتح المقبرة فجأة، وتظهر امرأة وبضعة رجال يحملون جثة ميت، ويمنعهم الحارس من دفنها في مقبرة اليوتوبيا، ويغلق المقبرة بعد أن سقط إيشارب السيدة المصاحبة لجثة الميت على رجال المقبرة، فيثير غريزة الجنس عند السيد (3)، على حين يثار السيد (4) من غريزة الجوع، ذلك الجوع والحاجة لملء المعدة اللذين سيظلان طوال العمل يعذبانه ويسيران تفكيره وحركته، بينما يظل السيد (2) باحثاً عن هويته وصوته المفقود في نظام السيد (1) الديكتاتوري، رغم إيمانه الكامل بمشروعه الطوباوي.
إذا كان لمسرح العبث الفرنسي أصداء في عالم (سعيد حجاج) الدرامي وأجواءه المسرحية، فإن روح الكاتب المصري (ميخائيل رومان) تتسلل جلية إلى لغته وحوارات شخصياته ومنولوجاتهم، بل ولطبيعة هذه الشخصيات، وشعورها الدائم بالوحدة والتشيؤ، وبحثها الدائم عن الخلاص من مجتمع ضاغط على كينونتها ومحاصر لحريتها الفردية ومصادر لرأيها فيما آل المجتمع، وتختبئ تلك الروح الميخائيلية خاصة تحت جلد السيد (2) المتمرد الذي يمتلك قدراً من الوعي بذاتيته وتفرده عن الآخرين، وعبر طرحه المستمر لأسئلة الكينونة والتحرر، ومن ثم تلتقي عبثية بيكيت مع تعبيرية ميخائيل رومان ليؤسسا معاً التربة التي يزرع فيها (سعيد حجاج) رؤيته الحادة للمجتمع المصري في العقد الأخير من القرن الماضي، رؤية تدفع بشخصياته للهروب من الحياة الواقعية لعالم طوباري، ليس فيما وراء البحار كالشاطر حسن وروبنسون كروزو وجاليفر وأبطال ألف ليلة وليلة، وإنما فيما تحت أديم الأرض، وعندما يتم لفظهم في النهاية، يصر زعيمهم على اختيار أهوان أشكال الموت وهو الموت فعلاً، بديلاً من الموت قهراً في الحياة، لذا يسلم نفسه للموتى كي ينهوا حياته الفعلية، بينما تخرج بقيد المجموعة من القبر الذي اختارته لتحقيق حلمها فيها، عائدة لعالمها الواقعي محبطة، غير قادرة على اكتشاف أن اخفاق الحلم كامن في عدم قدرتها على صياغة ملامح واضحة لهذا الحلم المراد تحقيقه، فضلاً عن اختياراها أن يكون البديل لحياتها القاسية والمفرغة من حرية التعبير، هو الحياة موتاً وسط القبور وجثث الموتى.
تدور مسرحية (بعد كده) داخل أحد السجون أو المعتقلات، قبيل لحظات من قتل البشر الذي زج بهم في هذا المعتقل، تمهيداً للقضاء عليهم، بتهمة الإرهاب، وتقديمهم قرباناً لفداء الوطن، بينما تدور المسرحية التالية (القربان) في الصحراء، هروباً من تقديم فتاة المدينة قرباناً للطاحونة المقدسة، رمز الحضور الميتافيزيقي لآلهة الأمس، والوجود المادي لملك ما، لا يختلف كثيراً عن العديد من قيادات الحاضر وزعمائه، وتشكل المسرحيتان القصيرتان مع مسرحية (يوتوبيا) الطويلة ثلاثية تدور حول القهر الإنساني، والتمرد الدائم ضده، وتطول فيهم الإرشادات المسرحية، ممثلة نصاً موازياً يحمل الإشارة للواقع المرئي الذي تعيشه تلك الشخصيات وتحاصر داخله.
وتبقى المسرحية القصيرة الأخيرة، والمسماة (لا شيء يبعث على البهجة)، وهي مونولوج درامي طويل، لكاتب يجلي على مكتبه مستعداً لكتابة رؤيته للعالم الذي يعيشه، غير أنه يشعر بالمرارة والسأم من كل شيء محيط به، والمسرحية في النهاية هي تذييل واجب، كان من الممكن أن يكون مقدمة للمسرحيات الثلاثة الأخرى، لكنها جاءت هكذا لتقديم موقف الكاتب مما أبدعه ويبدعه، كما تشكل نسيجاً درامياً مخالفا للبناء الدرامي الخاص بالمسرحيات الأولى، والمسرحيات الأربعة تشكل هماً جاثماً على عقل كاتبنا، ومحاولة إبداعية لصياغة أعمال صادمة لذائقة المشاهد وتوجهه الفكري، في زمن نحن أحوج فيه إلى اللون المتمرد الثائر المواجه لقضايا الحياة، والوصول بأسلوبه ولغته لرجل الشارع، المنفلت من برلمانه الشعبي، بعد ما ثبت له عدم برلمانيته وعدم شعبيته معاً، والمفتش في القنوات التليفزيونية الأرضية والفضائية عن البرامج الحوارية التي تطرح الرأي ولا تصادر حق الرأي الآخر في التعبير الكامل وبحرية عن نفسه، ومن ثم يظل المسرح بحاجة لمن يضع حوار الحياة، في بنية درامية متماسكة، وحدث درامي صاخب يغير من وعد المشاهد، ويدفعه للتفكير العميق في قضاياه، ويمنحه القدرة على صياغة وعي حقيقي بالحياة، لا وعي زائف أو مزيف.
د. حسن عطية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

من برنامج المسرح فى الصعيد ---قناة طيبة

من برنامج المسرح فى الصعيد تجربة مسرح المقهورين باسوان اخراج سحر جروبى . برنامج المسرح فى الصعيد رابط المشاهدة   ...