اثنان آخران في انتظار عبثي للخلاص
ما أن يشرع المرء في محاولة الكتابة حول موضوع انتظار عبثي للخلاص، والذي هو الموضوع الذي قرر الباحث مشاكسته،
وفقاً للمنطق المقارن، حتى يطوف بالذهن مجموعة من المأخذ يستحضرها الباحث غير
متقاعس ولا وجل، و ربما كان على رأسها ما قد يقوله كلود ليفي شتراوس في موضع مثل
هذا: "تعلم إن أبحاثي في (المداريات الحزينة) قد وصلت إلي حقيقة أن نظم تفكير
الإنسان البدائي الذي عنيت ببحثه تشابه- العفو، بل تطابق بنيات نظم تفكير الإنسان
المعاصر، وعليه تكون البنيات أثبت من أن ينالها التغيير، وأوفى من أن تستبدل،
وأحصن من أن تمس"، بالمثل فإن ميشيل فوكوه قد يطيب له، كما طاب له بالفعل، من قبل البناء على
هذا الأفق النظري، ما عرف بأركولوجيا فوكو، والتي تعتمد فكرة أن المعرفة هي ابستيما/شبكة
"تحت السطح" تسمح للفكر بتنظيم نفسه، ولكل حقبة تاريخية أبستيما خاصه
بها، تحدد شمول التجربة والمعرفة والحقيقة وتحكم كل علم في تلك الحقبة، وتكون مهمة
الأركولوجيا الحفر، لمعرفة الطريقة التي
تنتقل بها المعرفة من وضع إلي أخر، وكيف تتداخل تلك المراحل ومتى، يمكن إذن الحفر
في مجموعات للوصول للقاسم المشترك الكامن،[1]
وعليه ستبدو أي عملية أثبات بالقرائن لتأثر كاتب بكاتب أخر مثلاً، عملية إجرائية
بحتة، أكثر منها عملية علمية برجماتية، فخلف قشرة الاختلاف الثقافي القومية أو
الوطنية أو الإثنية، سيمكننا الحفر من العثور على مرتكزات بنيوية أعمق يمكن لها أن
تنتج هنا وهناك ذات الشيء تقريباً.
علي أي حال لن نحاجي فوكو أو شتراوس في ظنيهما، وسنحاول
تمثل المنطق المقارن ولو لاختبار مدى تعاطينا معه وفقاً لمنطقه، وننحاز لدراسة
موضوع متكرر ،
في مدار دراسة الموضوعات
الأدبية؛ يتم دراسة الموضوع المتكرر والذي يعد على نحو ما تراث جمعي للبشرية، وهي
دائرة بحث تخرج عن حدود الأدب البحت، لتنفتح على دوائر علوم إنسانية أخرى منها،
نتخير موضوع الانتظار العبثي
لخلاص، لنعالج خصوصية تناوله في نص مسرحية آخران في الانتظار ) لكاتب مصري من جيل
التسعينات وهو سعيد حجاج، وعلى حين ما يقسم ماثيو أرنولد الروافد الثقافية التي
بنيت عليها المركزية الغربية إلي رافد يوناني (هومري)، ورافد عبري (توراتي، يحوي
كذلك الأديان المكملة لليهودية) يكتفي الباحث باستعراض بانورامي سريع لبعض
المنتظرين في الميثلوجيا اليونانية على أن تكون عملية انتظارهم، إنتظار عبثي لا يأمل
فيه أحدهم أن يوافيه الخلاص، إنه انتظار لانهائي، و نعتمد في ذلك على
(الميتاميرفوزيس)[2]
(التحولات) للشاعر أوفيد كمرجعية، ونجد فيه نماذج لمعذبين يتعرضون لعذاب لانهائي،
وهو عذاب غير مثمر وهو لا نهائي في الوقت ذاته.
إنه عذاب لا نجاه منه، وهو عقاب لا يعود على
الجماعة بأي فائدة أو حتى تعويض، بمعنى أن العقاب في المجتمعات الحديثة، يثمر على
نحو ما، إما في تعويض المجتمع الذي مورس الجرم في حقه، تعويضاً يساوي قوة عمل
المجرم، مثلما نرى في مجتمعات اشتراكية الصين وكوبا، حيث يعتبرون المساجين عمالة
مجانية تقريباً، تدفع ثمن خطاياها في حق المجتمع، على حين ما توظف العقاب بعض
المجتمعات في تعليم المجرم ما يكسب به رزقه، و يكون تقويم عملي لسلوكه، إلا أن ما
يميز نماذج العقاب التي نقف عندها في الميتاميرفوزس، كونه عقاب لا نهائي، قاسي إلي
حد لا يمكن تصوره، لا يثمر ذاتياً أو موضوعياً، أنه عقاب انتقامي بدائي، كدت أقول
سادي، يعكس أول ما يعكس استبشاع الجماعة المنتجة للأساطير لجرائم هؤلاء، كما يرجح
إمكانية وجود أنماط من العقاب مارستها مؤسسة السلطة في تلك المجتمعات تختلف كثيراً
عما يمكن تحمله اليوم أو تبريره بمرجعيتنا،
المعذبون هم "تنتالوس"،"تيتويس"،"إيكسيون"،"برميثيوس"،"سيزيف".
تنتالوس[3]: يحس الظمأ ولا يبلغ الماء فاه، وأمامه ثمار شجرة دانية
القطوف، حتى إذا ما مد إليها يدا بعدت، وتنوعت محاولات تبرير هذا النمط من العقاب،
ففي أكثر من موضع يشير أوفيد إلي أن تنتالوس قد عزم آلهة أوليمب على وليمة ثم قدم
لهم أبنه بيلوبيس، كنوع من الحفاوة المبالغ فيها[4]،
فكان هذا عقابه، وهو إسراف وخروج على الوسط الذهبي، والبعض يرجح معاقبته لأنه عاشر
غلام جوبتر المقرب.
تيتوس[5]: يرقد فوق أفدنة تسعة مسلماً أحشاءه للنسور تمزقها، ولم
نستطع العثور على جريمته، لكننا نلمح تشابه عقابه مع عقاب برميتيه على ما يطرحه
د.محمد غنيمي هلال في فصل الثالث "المواقف الأدبية والنماذج البشرية".
إيكسيون[6]
: أحب الإلهة جونو زوجة جوبيتر،
وحاول إغرائها فأبلغت جوبيتر، الذي شكل امرأة على غرارها، ورفعها حيث إيكسون، الذي
ضاجعها، وأنجب منها القنطوري، فعوقب
بأن شد إلي عجلة تدور إلي مالا نهاية، ويكاد جسده أن يلحق ببعضه، (من
المدهش هنا أن فكرة الدوران هذه والدائرية ستكون مرتكز تكنيكي للعبث من بعد حيث
النهايات تفضي للبدايات وفقاً لدائرة مفرغة.
برميثيوس: إنه من سرق النار من فضاء
الآلهة ليهب هذا القبس للبشر، وعوقب بأن ظلت الجوارح تأكل من كبده إلي مالا نهاية،
ولا يكاد عصر يخلوا من تمثل درامي لقصته[7]،
بدأ من أسخيلوس، جوته، شيلي، أندريا جيد
سيزيف[8]:
لقد أوصى زوجته ألا تدفنه، ولما
لم تملك إلا أن تفعل عاد للحياة لأن وصيته لم تحقق كما يحق له، لقد تحايل بذلك على
الموت نفسه بلوتو نفسه، فكان عقابه أن يظل ممسكاً بالصخرة التي توشك أبداً على
السقوط، وفي قول أخر يصعد بها إلي أعلى ويعود، في كل الحالات هو عقاب لا
نهائي عبثي لا خلاص منه.
---------------------------------------------
سيزيف على وجه التحديد كان مادة
الاستلهام الأشهر في بلورة مفهوم العبث فنياً،
فإن كان يؤرخ فنياً لهذا التيار بمسرحية
"المغنية الصلعاء" ليوجين يونسكو والتي ظهرت للنور عام (1950)، فإن يؤرخ
فنياً للمرتكزات الفلسفية القائم عليها هذا التيار في "أسطورة سيزيف"
لألبير كامو (1942)، وما أسهل أن نستنتج أن لحظة مخاض هذا التيار بذلك تزامنت مع
الحرب العالمية الثانية أكثر حروب البشرية قاطبة عبثية، فالحرب العالمية الثانية،
تلك الحرب التي لم يكد يفصلها عن سابقتها عشرين عام، أي أنه بالرغم من حجم الدمار
الذي شاهدته أوروبا، والدرس القاسي الذي ظن الجميع أنها قد تعلمته من الحرب
العالمية الأولى، بما كان يؤكد أن حدوث حرب عالمية ثانية، ولو بعد قرن هو أمر
مستبعد، إلا أنه ما كادت البشرية تلفظ أنفاسها من الحرب الأولى، إلا وكانت معاهدات
السلام المشبوهة التي أعقبت الحرب الأولى مثل معاهدة فرساي أحد بواعث حرب أنكى
وأكثر هولاً، راح ضحيتها ما يزيد عن الستة ملايين مواطن، وهدمت فيها مدن وعواصم
أوروبية بما تحويه من أثار ومخلفات حضارية أرخت لعصر النهضة بل وما قبلها، لقد
قذفت نورمبرج، وقذفت فرساي، وقذفت فلورنسا، وصارت تلك البؤر الحضارية خرابات تنعي
من بناها، كذلك فإن المكتسبات الحضارية الأساسية التي حققتها البشرية؛ من أول وجوب
احترام رسل الأعداء، وحتى عدم انتهاك
معاهدات معاملة الأسري، حتى عدم المساس برجال الإغاثة والتمريض، كافة ما بني من
قيم عبر حروب البشرية تم انتهاكها ببساطة، كادت دول الحياد المعروفة سويسرا
والنرويج أن تقصف وعثر على خطط بضربها بالفعل، لقد فشل حلم مجتمع العدالة بعد
ثورات برجوازية امتدت من القرن الثامن عشر، تحقق الجميع من وهم أسطورة جيش الخلاص،
بدا للعيان ما يمكن أن يفعله رجال أمثال؛ هتلر،و موسوليني، وهيرو هيتو، وستالين،
وتشرشل، لقد أنتصر الحلفاء لكن الديمقراطية المنتصرة لم تقبل بأقل من استسلام غير
مشروط، وبالرغم من النصر المؤكد، سقطت قنابل الأمريكان على ناجازاكي وهيروشيما،
فاتحة بذلك عهد جديد من الرعب النووي، ومسلطة منجل اليأس والخراب فوق رؤؤس الجميع،
وما كادت الحرب تنفض حتى حلق الرعب النووي والفناء الكامل، و بان سوء الظن بين
حلفاء الأمس، وصارت نهاية الجنس البشري أقرب من استمراره، لقد عجزت أوروبا والغرب
عموماً الذي كان يطرح النموذج المحتزي في الحداثة عن إعطاء النموذج التطبيقي
المقنع، و فشلت كلاشيهات و تمتمات وشعارات سياسية من تحقيق قيم الحرية أو الإخاء
أو المساواة، لقد ثبت أن اللغة التي صنعها الإنسان للتواصل، قد فشلت كل الفشل في
تحقيق مثل هذا التواصل، تجاوزت الكارثة أي أبعاد إقليمية، أو وطنية، أو أثنية، أو
طائفية، لقد نجحت الحرب في تعرية الجميع، واثبات تهافت المنجز الحضاري الإنساني،
ووهن المرتكزات الثقافية بوصفها المكتسب الأهم في مسيرة ذلك الذي خرج من الكهف
وكاد أن يبلغ القمر –حتى ذلك الحين-، على جثث البشرية وأنقاض الحضارة، صعدت أفكار
العدمية، واليأس، والانتحار.
وموضوع الانتظار العبثي لخلاص، موضوع مركزي في
العبث، وعلى حين ما يذهب البعض لاعتبار العبث هو وليد المعركة، يدفع الباحث
باحتمال -ربما يستحق الدراسة- وهو كون العبث وليد انتظار ما بعد المعركة، انتظار
النهاية المفجعة الوشيكة أو الرعب النووي المحلق بعد ضرب ناجازاكي وهيروشيما، وعدم
الاكتفاء بالنصر الذي تحقق دونها، بل سحق إرادة العدو والوصول لصيغة لم تعرفها
البشرية من قبل وهي الاستسلام النهائي بدون قيد أو شرط، وتنازل هوري هيتو عن
إلوهيته ونهاية الديانة اليابانية تقريبا بذلك.
نعود لفكرة الانتظار العبثي لخلاص فنراها تتصدر
قائمة أول عمل عبثي لصمويل بيكيت في "في انتظار جودو"، وهي واحدة من
أشهر المسرحيات العبثية ، تأثير العبث في كافة الثقافات ومنها العربية يسهل
الاستدلال عليه، لا فقط من استحضار أعمال رواده، وتقديمها على مسارح القاهرة في
كثير من فرقها في الستينات، بل كذلك تصدي كتاب مصريون لمحاولة كتابة أعمال تنتمي
لهذا التيار، من هؤلاء -على سبيل الاستدلال- توفيق الحكيم، في عمليه "يا طالع
الشجرة" ،" الطعام لكل فم"، ويشاع كذلك أن "مصير صرصار"
تنتمي لهذا التيار، غير أن قراءة مدققة ستكشف أن المسرحية تنتمي للواقعية، ولا
يكفي حديث حشرة فيها لاعتبارها عبثية، في تسامح لن يغفره لنا العلم سنعتبرها
"واقعية سحرية"، لكن عبث (!)
نعود للحكيم نفسه الذي له تنظيره طريفة في
التفريق بين مسرح العبث و ومسرح اللامعقول
نوردها بنصها " أني قصدت عمداً استخدام "اللامعقول"لأنها هي التي
تعبر عن موقفي واتجاهي... وهي شيء آخر غير مسرح "العبث" كما يسمى في
أوربا وأمريكا... إن "اللامعقول" شيء و "العبث" شيء آخر...
مسرح "العبث" يتعلق بالشكل والمضمون معاً.. في حين أن مسرح
"اللامعقول" عندي هو عمل يتعلق بالشكل فقط، بل أن فن "العبث"
يبتدئ فعلاً وينبع أصلاً من المضمون: من فكرة أن العالم عبث... لينتهي إلي الشكل
العبثي الملائم لهذا المضمون... أما في حالتي فإن اللامعقول عندي هو وضع العالم
المعقول في إطار اللامعقول... هو إزالة الحائط الفاصل بين المعقول واللامعقول،
ليعيشا معاً في أسرة واحدة متحابين... يؤثر أحدهما في الآخر ويزداد الوجود بهما
ويثري..." [9]
قيمة الحكيم الفنية مسألة لا يمكن المماحكة فيها، وهو مرجعية فنية،
ومرتكز يصعب تجاوزه إلا به، لعله يشبه في ذلك شيخ الطريقة، الذي يستحيل أن تستمر
في الطريقة دون أن تنال عهده، لكنه الشيخ المربي الذي يخرج من أخذى العهد عليه قطب
غوث، أو فرد جامع، وعفوا عن هذا الاستطراد، بالرغم من قيمة الحكيم الفنية، إلا أن
قيمة ما يطرحه نقدياً وعلمياً لا يقارب حجمه ككاتب مبدع، و الفقرة السابقة بما
تحويه من تناقضات داخلية، ناهيك عن مفاهيم مغلوطة، يصعب المرور عليها مرور الكرام،
فها هو يفرق بين الشكل والمضمون، واستحالة ذلك بغير حاجة لإثبات، ثم هو يفرق بين
اللامعقول والعبث، والحقيقة أنه -فيما عاداه- تستخدم الكلمتين كمترادفات، ثم هو
يقبل شكل العبث دون مضمونه، مع أنه يؤكد أن الشكل قد جاء استجابة حتمية للمضمون.
الشاهد أن مسألة العبث كانت
من الحيوية والأهمية بمكان لحد التنظير لها ومحاولة تقنينها، و إعطاء مفاهيم خاصة
لها، وتبريرات، ولعل في ذلك ما يدلل على ثبوتية وحضور هذا التيار في المشهد
المسرحي المصري، لا عبر الترجمة فحسب، ولا عبر تقديم أعمال رواده، بل بمحاولة
تمصيره مفاهيمياً كما أجتهد الحكيم[10]،
لقد ترجمت أعمال ليوجين يونسكو، أداموف، و فرناندو أربال، وإدوارد ألبي، وجورج
شحادة، وصمويل بيكيت، وجان جينيه، بل وترجمت تنظير حول العبث منها الدراسة الأشهر
لمارتن أسلن والتي ترجمها صدقى عبد الله حطاب، وراجعها د.محمد إسماعيل الموافي،
وصدرت ضمن مجموعة مختارة من دراما العب بعنوان "دراما اللامعقول" ضمن
سلسلة المسرح العالمي[11]
وقت أن كان المشرف الفني لشئون المسرح زكي طليمات، غير أن نص "في انتظار
جودو" قد ترجم هو أيضاً علي يد فايز أسكندر ونعيم عطية.
وسعيد حجاج ككاتب من كتاب التسعينات يرجح اطلاعه على
أعمال عبثيه، فحجم انتشار أعمال مترجمة لهذا التيار يمكن أثباتها عشوائياً مثلا
عدد أول يونيو 1990 من سلسلة من المسرح العالمي، نجد في هامش الأعمال الصادرة عن
السلسلة، في كل صفحة حوالي 20 أسم مسرحية، والعدد أول يونيو 1990 هو رقم 249 من
السلسلة، لا تخلو صفحة من الهوامش التي تذكر ما صدر عن السلسة، من ذكر عمل ينتمي
للعبث، هذا يعني وجود ما يزيد عن العشرين عدد، لا يقل عدد المسرحيات في أي منها
بأي حال عن مسرحيتين.
وبفرض عدم اطلاع سعيد حجاج علي أي منها، يأتي اختياره
لأسم عمله "اثنان آخران في انتظار جودو" دليل على الأقل على معرفته
بوجود عمل عبثي له هذا الاسم، نتعمق أكثر، فنحاول التركيز على ما يوجد في نص سعيد
حجاج ويمس ثقافته الإقليمية وبالتالي يصعب وجوده في نص بيكيت،
· شخصيات
بيكيت هي "أستراجون، فلاديمير، بوزو، لاكي، الغلام"، شخصيات سعيد هي
" عزوز، صفوان، الرجل، الطفل، الغلام، بالإضافة لإرشادة مسرحية تطالب بوجود
صفوان 2، صفوان: صعلوك نحيل، صفوان 2: صعلوك سميك نوعاً، ولكن التعامل الشخصيات
الأخرى معهم لا تكاد تميز أحدهم عن الأخر، إنهم واحد في عرف الفضاء الدرامي، لكن
فضاء اللعب سيطرح على المتفرج أثنين"، نلاحظ وجود قرابة فونيمية بين اسم
استرجون وصفوان.
· في
أول إرشادة مسرحية تشير وجود جذع شجرة معلق عليه أسماء بلغات أجنبية أخرها استرجون
وفلاديمير غير أنه يفيد إطلاع سعيد حجاج على النص، أو مشاهدته للعرض، أو أي من
قرائن التأثر، نجد مخالفة لما يصنعه بيكيت، إن صفوان وعزوز، هم في سياق من
المنتظرين، كان أخرهم استراجون وفلاديمير، حين يموضع سعيد
حجاج شخوصه في هذا السياق هل ينتمي بدرجة ما إليه، أم يتمايز عنه!، غير أن أول
أرشادة مسرحية في الفصل الثاني تفيد بأن أسمي صفوان وعزوز يضافا إلي الأسماء.
· في
حوار صفوان مع عزوز نجد،
صفوان: الحياة
الشريفة تحتاج إلي أنبياء وأنا لا استطيع الوثوق في أنك نبي،
وإن كنت تدعي
ذلك فأدع لنا ربك ينزل علينا مائدة من السماء لأنني جوعان.. وقل له أنني أحب أي
شيء لم أذقه من قبل.
(ثمة حضور
لتراث قرآني في تعبير أدع لنا ربك ينزل علينا مائدة، وهي واقعة تمس طلب وجه إلي
عيسي بن مريم بن ينزل مائدة من السماء، وهي قصة يتميز بها القرآن، حيث لا يوجد لها
آثر في الكتاب المقدس، ثم تصور أن يذوق فيها ما لم يذقه من قبل، هي صورة تعرفها
الثقافة العربية في "مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر")
· في
حوار عزوز مع صفوان نجد،
عزوز: لقد
طردتني أمي منذ الصباح الباكر، وأقسمت أنني لن أدخل البيت إلا إذا التحقت بأي عمل
ما حتى ولو في المراحيض العامة أو في المواخير[....]
(اختلاف تام عن بيكيت، حيث أنه لا يمكن
أبداً تبين معالم اجتماعية، لعالم خارج الحدث الدرامي، لقد قذفت بالشخصيات داخل
فضاء بيكيت، في مقاربة للإنسان المقذوف للعالم حسب التعبير الوجودي، غير أننا لا
نؤكد أن كافة شخصيات العبث منقطعة الصلة بالعالم الخارجي، تعاني ارتباطات مشوهة به
نعم، تعاني ضمور ذاكرة نعم، لكن ثمة فضاء اجتماعي نتبينه لدي يونسكو مثلاً، وثمة
هم اجتماعي لدى أداموف مهما تبرأ منه، بيكيت سار خطوة أبعد من الوجودية التي جعلت
من بطلها ابن الفعل الدرامي، أبن اختياره فقط، بكونه جعله اليتيم بامتياز، لكن
شخصيات حجاج لها واقع اجتماعي)
· القبعة
التي يجدها عزوز يقرأ بداخلها كتابة تفيد بأنها ملك استراجون، وبذا تحضر أحد سمات
المحاكاة الساخرة، البارودي، حيث بدون تذكير واضح، واستحضار للأصل لا يمكن للمحاكي
أن يعتبر عمله محاكاة، بل يكون عمل فني قد يكون جيد في ذاته، لكن شرط المحاكاة
استدعاء الأصل، يحضر هذا الشرط.
· ثمة
حوار برطانة كلاشيهاتية سياسية مفرغة من معناها يرددها لكي في نص بيكيت، نجد
مقطوعة من هذا النوع يرددها صفوان2، لكن بها كلاشيهات اجتماعية زاعقة " ....
كزوجتي تماماً فهي عاهرة محترفة ولكنها تحافظ على سمعتها جيداً، وأنا أثق أنها
معذورة أيضاً، فماذا تفعل؟ - (يتلو شعراً) في بلد تتعرى المرأة فيه كي
تأكل.......لقد صرت حقاً صديقي من الآن فصاعدا فلترتد وسام الصداقة من الدرجة
الأولى والذي أمنحه لك عن طيب خاطر..."
· الخطاب
الديني الهازئ لدى بيكيت لدينا ما يمكن أن يقابله ويناقضه في حوار صفوان2 مع جودو
وهو يستحضره، روح الخطاب روح ابتهالات أو تواشيح، "أنا أنتظر منذ آلاف السنين
كآلاف من انتظروك هنا في هذه الرقعة من العالم، وآتي إليك كل يوم في المساء كي لا
يرانا أحد وأنت تعطيني أو تسلب مني ما تشاء،.... أنا هنا فأنظر...." يكاد
يكون أحد مجاذيب أل البيت ويطلب نظره بنبر يكاد يكون صوفي.. يتكرر هذا النبر من
بعد وبصيغة أقرب للنص الديني المباشر "ضمني إليك الآن وشد القذى من عين
العالم فقد تعبت انتظاراً، وإن كنت أنا غير فاعل لشيء فإن هذا الخلاء يمنحني يا
سيدي طهري، كي أرجع العالم مضياً وأخرج قلبي أبيض من غير سوء لكي أكون أمام الجميع
نوراً" حضور لفيض مشحون بالنص القرأني، اليد التي تخرج بيضاء من غير سوء،إنه
معجزة لموسي وهي كسابقاتها لعيسى لا يكاد يعرفها اليهود.
· إن
منطق اللاجدوى اللانهائي لا يعرفه سعيد حجاج مثلما استنكره الحكيم من قبل فعزوز
مثلا يقول في سياق لا يكاد يقلل من حصانته الدرامية شيء " عزوز :وتصلبني
فوق هذه الشجرة العجوز.. لعل دمائي تعيد ربيعها فأكون قد سجلت شيئاً نافعاً في
موتي.. شيئاً لم استطعه في حياتي.. لكن أرجوك أحفظ قلبي لديك.. فلا يلمسه تراب أو
يلمحه غسق ما.
صفوان2: اهدأ أرجوك.
عززو:
الليل كئيب والوحش الأسطوري يزور المدينة كل يوم فيغتصب النساء ويسلب الرجال
عقولهم.. والأطفال خضارهم السخي ليتركهم غير صالحين لشيء كأنهم مدافعون أغبياء عن
مواقع مهزومة."
لو أننا حاولنا تحليل المقطع تحليل
نفسي لوجدنا أن رهاب الاخصاء يسيطر على الخطاب ومن المعروف أن هذا الخوف يمثل أكثر
في المجتمعات الأبوية، ولدينا ما يفعل هذا التأويل
(1)
رغبة عزوز في أن يصلب فوق شجرة
عجوز لا فوق صليب، يؤنثها، ويصيبها بالعجز، ليكون هو في المقابل الذكر المنتصب.
(2)
دمائي تعيد ربيعها، ثمة سائل
لديه (سائل الحياة) الذي يملك أن يعيد إليها الحياة (الدم/ السائل المنوي).
(3)
شيئاً لم أستطعه في حياتي،
عبارة تعكس العجز وتعلن، إنها عبارة إفشاء/ اعتراف قمينة بهتك السر، ومن ثم
استبدال الواقع.
(4)
الليل كئيب، ففي الليل يظهر
مكمن ضعفه الجنسي، حيث يشار لذلك دائماً على سيبل التورية في الثقافة العربية بطول
الليل، وكثرة النوم أو ما إليها، لدينا شكوى امرأة صفوان بن المعطل السلمي لرسول
الله بكثرة نومه والتي لم نصادف في كتب المفسرين إلا شكواها الجنسية، ثم أن صفوان
هذا هو صفوان حادثة الأفك.
(5)
الأفعال التي يقوم بها الوحش
الأسطوري تعكس وفقط رهاب الاخصاء، الوحش يغتصب النساء، الوحش يسلب الرجال عقولهم
(لاحظ أن العقل هو العقال--- المسيطر---- الحلم----وألعاب صرفية ستقرب أصحاب
الأحلام أي العقول من مادة حلم، أحتلم، استحلم، وغيرها)، الوحش كذلك يسلب الأطفال
خضارهم السخي (قدراتهم المؤجلة ولو إلي حين) ويحلوهم إلي مدافعون (لاحظ لا
مهاجمون) أغبياء (نحيل لمادة العقال والحلم ثانية) عن مواقع مهزومة.
بديهي أن خوف الأخصاء يكون له هذا
الحضور أكثر في ظلال المجتمعات الأبوية، حيث الشرف لصيق الهيمنة أو غشاء بكارة الأنثى، والمجد
رديف قضيب الذكر المنتصب دائماً، و حضور الأبوية ليس تأويل مفرط، بدليل أن سعيد
حجاج يستبدل علاقة السيد بالعبد التي يشرحها بيكيت تشريح نيتشوي صارخ، لكن يكمن
خلف نتشه في طبقة حفرية أخرى هيجل الذي يصدر عن الجميع، يقول هيجل "كل ذات تكون مستغرقة بعمق
في شئون الحياة، وتواجه في البداية الذات الأخرى بوصفها عقبة أمام امتلاكها
للعالم، وتطلب اعتراف من الذات الأخرى، وتكون النتيجة معركة حياة أو موت من أجل
الاعتراف من الآخر، والذات التي تخضع -بدلاً من أن تواجه الموت- تصبح عبد، ويأتي
رد الفعل في احترام مهزوز للسيد، نرى العبد ينقض إثبات الهوية الذاتية، ويوضع
ليعمل ويتعلم ببطء احترام الذات حين يصل لرؤية ذاته منعكسة في عمل يديه، إنه عالمه
الذي صنعه، حتى لو كانت يملكه السيد، وتلك بداية المسيرة نحو الاستقلال.[12]
لكن سعيد حجاج يستبدل علاقة السيد/
العبد بعلاقة من الأب/ الابن، والأب هنا يربط صغيره في الشجرة ويمارس عليه قهر
منظم رغم أنه لولا إرشادة التعريف بالطفل:لما شك أحد في أنه طفل لم يبلغ المراهقة
وذلك بسبب الفعل في مواجهته لكن سعيد يشير إلي كونه "ليس طفلاً بالمعنى
المتعارف عليه لكنه يحمل عقل طفل. بينما شاربه بارز"،
نعود لهيجل فنجد ربط علاقة السيد
بالعبد، بالأب الابن ومن خلال الأبوية الدينية إذ يقول : "إن المسيح يعارض
الاعتقاد الذي كان لليهود عن الله رباً وسيد وسلطاناً، بعلاقة مع البشر
بوصفها علاقة أب مع أبنائه"[13]
هكذا نلمح ظلال المجال الدلالي الإذعاني للدين يربطه "هيجل"
باليهودية والتي لم تأت المسيحية لتنسخها، لكن التنقيح المسيحي سيكون في العلاقة
الأبوية، وهنا يتمثل المجالان الدلاليان الإذعاني والمتسامح.
· نخرج
من ركام الحفر لسعيد حجاج فنجد تحديد مكاني يطابق ما نجده لدى بيكيت لدى سعيد حجاج
"أنزلني من فوق صليبي وادفني خلف القلعة التي تحجب القاهرة"
ولدى بيكيت فلاديمير "جنباً إلي
جنب من فوق برج إيفيل، ومكاننا بين الأوائل أما الآن فالموقف جد متدهور، لن يسمحوا
لنا حتى بالصعود".
كما هو واضح هناك تحديد مكاني لمعلم
دال على وطن، أحدهما يحجب القاهرة، والثاني بات طلوعه مستحيل، لاحظ أن باريس على
وجه التحديد هي موطن ما أطلق عليه البعض المعجزة الباريسية، حيث على أرضها ظهر
العبث، من مغتربيها، بيكيت الايرلندي، بشحادة اللبناني، وأداموف الروسي، ويونسكو
الروماني.
هناك تعبيرات محلية عامية مصرية
يستخدمها سعيد حجاج بعد أن يمررها إلي الفصحى مثلما فعل صلاح عبد الصبور في العديد
من المرات إذ يستحضر فعلانة كمؤنث لفعلان، وهو خطأ لغوي فيقول في مأساة الحلاج
"أمي ما ماتت جوعاً أمي عاشت جوعانة" و الأصل أن يقال جوعى على غرار
رضوى مؤنث رضوان، لكنه يستخدم الصيغة العامية بحسه اللغوي الراقي فيقول مثلما نقول
بالعامية: تعبانة، عطشانة، جوعانة، وقبله كم لعب المتنبي العظيم ألعاب مثل هذه،
نعود لسعيد حجاج الذي يستخدم تعبير عامي ويفصحه إذ يقول (صفوان2: الأيام التي مرت
كفيلة بأن تعلم الناس الكفر) طبعاً لا خطأ لغوي في تعلم الناس الكفر، غير أن
التركيبة برمتها بذهنيتها عامية.
----------------------------------------------------
تبقى أن البنيات لا يمكن مقارنتها لأنه من غير العلمي
التحدث عن بنيات قطرية أو قومية، وهذا مبحث الدراما المقارنة
ياسر
إبراهيم علام
[1] حول مفهوم الأبستيما
وأركولوجيا فوكو عموماً أنظر: (هوركس)كريس و (جفتيك)زوران - اقدم لك فوكو -
ت:د.إمام عبد الفتاح إمام - المشروع القومي للترجمة - القاهرة -
المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة - ع431/2002.ص70،ص71.
[2] لعله من المفيد أن
ندعم مفهوم التحولات للـ"ميتامرفوزس" وليس الشائع من كونها مسخ
الكائنات، لإن المسخ هو تحول من الأعلى للأسفل، وفي هكذا سياق لا يمكن أن نعتبر
صعود هرقل إلي الأوليمب مسخ مثلاً، وكذلك صعود ميديا، وعليه تكون التحولات تعبير
أدق.
[3] يسترعي الانتباه أنه
التصور المناقض بالضبط للجنة كما طرحتها بعض أدبيات
الثقافة العربية وفيها أن ثمر الجنة يأتيك ما إن تشتهيه.
[4] أنظر: أوفيد -
ميتامورفوزس- ت:د.ثروت عكاشة - الهيئة
المصرية العامة للكتاب –الطبعة الثالثة/1992- ص150.
[7] يسرد د. غنيمي هلال
بالتفصيل للتعامل مع برميثيوس لدى المؤلفين السابقين، ويكاد يصل لتحولاته كعلامة
في سياق النص الدرامي الإنساني، من الكلاسيكية للرومانتيكية، للوجودية، و هو موضع
مغري بالدراسة.، أنظر محمد غنيمي هلال – الأدب المقارن-ص299: 302.
[10] هذا من جانب مبدع
ومفكر كبير، وبقى ناقد وأكاديمي، هو د. إبراهيم حمادة، نورد تعريفه للعبث وسط
خطاطة تفكيكية يقدمها الباحث ملحقة بالبحث.
[11] أنظر (أسلن) مارتن –
دراما اللا معقول / يونسكو- اداموف- أربال- ألبي- الكويت – من المسرح العالمي-
1970- العدد .11
[12]
أنظر:(سبنسر)ليود،(كروز) أندرزجي - أقدم لك هيجل - ت:إمام عبد الفتاح إمام - المشروع
القومي للترجمة - القاهرة - المجلس الأعلى للثقافة - ع:429/2002 -ص64:ص67.
[13]
(دريدا)جاك - التشتت - باريس - دار لوسوي - 1972 - ص175.. عن:(فورطي)جان-جاك – لغات
وتفكيكات في الثقافة العربية- الدار البيضاء- دار توبقال للنشر- 1998 - ص74.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق