ليالي عرس كانت يوماً واحدة
ياسر علام
لماذا يستدعي
الذهن صفة "مشاكس" إذا ما حضر أسمه!؟ سؤال سيطيب للبعض التطوع للإجابة عنه..
سيقول احدهم: دعنا نضمه لقائمة من العصاميين
الذين كان يكفيهم قرارهم بأن يكونوا كتاباً في بناء مشروع قوامه؛ التحصيل الذاتي والدأب
والترويج للذات بهمة، لا تعرف رفاهية الخجل ولا أوهام الترفع.. وسيقول غيره بحسرة
-لا تخلو من غيرة-: أنا أضعه مع من يعرف كيف تنتقد الجماعة وتنال تصفيقها.. وكيف تنتقد
المؤسسة وتنال تعاقداتها.. و لن نعدم من سيضمه لدائرة تقاوم الانقراض تعرف بالفنانين
الصعاليك إرتادت مقاهي وسط البلد ومع ذلك ظلت منتجه..أسمه سعيد حجاج..
من مشاكسات سعيد حجاج أنه يعجب بنص درامي فيعيد
كتابته مرة ثانية، فعلها مع (خالتي صفية والدير) لبهاء طاهر، مع (في إنتظار جودو) لصمويل
بيكيت، وفعلها مع (ليلة عرس) ليوسف أبو رية.. من هذا الموضع، بديهي أن يتوافد إلى الذهن
حزمة من المصطلحات ليس أولها (الإعداد) وليس آخرها (الدراماتورجي)، نعلم أنه ما إن
نستجيب لغواية ملاحقتها نقدياً، حتى تنقضي المقدمة دون أن نعرض فيها لخصوصية هذه التجربة
في شيء.. فإذا ما وثبنا متجاوزين تلك الغواية.. لطالعتنا فجوة أوسع وأغور تتعلق بالحقوق
الفكرية والأدبية لمالكي النصين المُستلهِم والمُستلهَم على السواء.. نحسم الأمر إجرائياً
ولو في هذا المقال.. بكون النص التالي زمنياً هو نص درامي بكل ما تحمله الكلمة من حقوق
ومعان وتبعات ونشير –فقط- لكون أحد المصادر المعروفة عالمياً للإستلهام الدرامي من
قبل المؤلف مصدر يعرف بالإبداع السابق.. والشاهد أننا سنتعامل مع نص سعيد حجاج كنص
مسرحي مستلهم من الرواية.. وكلا العملين يحوي خمائر درامية يمكن أن نعرض لها من زوايا
التقابل..
فعل متكرر يصدر عن سعيد حجاج عند إستلهامه لنص درامي
آخر في كتابته لنص مسرحي.. إنه ككاتب لا يحيد سعيد حجاج القارئ من فعل الكتابة.. بل
يستبقيه، بقول آخر.. يدع لنفسه كقارئ ما أعجبه في النص.. ويتشبث عبر هذا الفعل بحالة
استمتاع نالها إبان مطالعته للنص يوما كقارئ.. حيث من المفهوم بداهة إن أول زوايا تعامله
مع النص كان كقارئ.. وهو إذ يرفض التخلي عن أول ما أمتعه في النص، يحاول بعد ذلك أن
يشرك متلقى جديد في معية الاستمتاع الأولى تلك.. أي يعيد المتلقي الذي هو في الغالب
متفرج مسرحي –ونقول في الغالب لأنه ثمة متلقى قد يكون غير متفرج مثل العبد لله في موقفه
هذا كمحلل مثلا- يعيده إلى حضور فعل تلقي روائي..
وهو ما تسمح به أعراف التلقي المسرحية الحالية.. وهنا –من تلقاء نفسها- ستنفتح دردشة
حميمة عن كتابة التسعينات التي سمحت للسرد بالتدفق عبر النوعية..
المتابع لنصوص التسعينات سيعرف تعبيرات من قبيل
"القصة القصيدة"، "قصيدة النثر"، "الكولاج"، "قصيد
مسرحي".....إلخ.. فإذا ما أضافنا أن ثمة مزاج فني مسرحي متنامي يحتفي بالسرد والحكي
في كثير من العروض المسرحية في العقدين الأخيرين.. لعلمنا أنه بات من غير المستبعد
الأبقاء على قطع سردية من متن رواية كما هي ما دام الفضاء المسرحي –يميل مؤخرا- لأستضافتها
من جانب.. ومادام الكاتب المسرحي من جانب آخر قد قرر الترحيب بها في ثنايا عمله الفني..
وإليك التالي مثالاً..،
المعلم: يعض اليد التى أنقذته من الجوع .. نسى أنى ضممته للعمل مع أخيه وأنا
غير مقتنع به, ماذا يفعل أخرس معنا فى محل جزارة ؟ هو قدير فى رص الجوزة لاشك.. عفريت
يسقيك المائة حجر فى دقيقة. يقعى أمامك كجرو هزيل. لا يكف عن الاشارة.. تطلب منى ألا
أعاقبه ؟حتى لاتنفضح فعلته ؟ كيف وأنا أدرى الناس به ؟ وهل سيكف عن حديث المقاهى ؟ايام
كان يرص لى الحجارة أعطيه الإشارة بالحديث فيأتى على سيرة فلان وعملة علان .. أخبار
البلد كلها فى جيبه. انه يدرى ماذا يحدث وراء الجدران. يدرك أسرار الفراش وخفايا القلوب .. هنا تكمن خطورته.
في المقطع السابق، والذي نجده في الرواية بنفس الألفاظ،
يعرض لحالة الغليان التي تعتمل في نفس المعلم عثمان، الذي أكتشف تحرش أحد صبيانه، حودة
الأخرس بزوجة المعلم الآثيرة شمس.. نجد هنا استبقاء للمنطق التقني القصصي أو الروائي
لكن من البديهي أن تصادف الكاتب المسرحي هنا عدة عقبات تعترض مثل هذا الميل.. أولها
لسان مقال الشخصيات، التي لا ينبغي لها أن تتحدث فصحى الروائي مثلاً.. فالرواية تملك
عرض لسان حال الشخصية عبر الرواي وهذا أمر مفهوم تماماً.. لكن مسرحياً كيف يمكن تحقيق
هذا الأمر؟! إذ أن الشخصيات يجب أن تنطق بلسانها هي لا بلسان المؤلف إلا فيما ندر؟!..
يعمد الكاتب المسرحي هنا لأستخدام تقنية (الصوت
الداخلي) ويسمح عبر استخدامها باستحضار لسان حال الشخصيات كما جسدتها لغة الرواية،
التي صار له أن يستدعيها متى شاء.. ويبقى للحوار المنطوق لسان المقال العامي العاكس
للغة وثقافة و التكوين الاجتماعي للشخصيات.. هكذا ستتحدث الشخصيات في هذا العمل المسرحي
بالعامية وبالفصحى.. تتحدث إلى بعضها البعض بالعامية .. وتبقى مناجاة النفس أو الذات
الفضاء الذي سيتسع للفصحى. و تبقى إشكالية المخرج من بعد هل سيعمد إلى العمل مع ممثله
على نقلات سريعة بين لسان حال ومقال الشخصيات أو بين الفصحى والعامية أم سيميل لتقنيات مثل (play back) كمعادل
للـ(voice over)
مثلا؟!
الملمح الثاني المتكرر في معالجات سعيد حجاج لنصوص
غيره الدرامية والتي نجد لها حضور في هذا النص.. أنه بعد أن ينطلق أولاً من مناطق الإعجاب
بالنص كقارئ، يسرع فيستثير ويستنهض غيرته الإبداعية تدريجياً لمفارقة هذا النص بدرجة
ثم بدرجات.. لنلحظ أنه كلما توغل في الكتابة فارق النص الأول وبشكل متسارع.. حيث البدايات
كما أسلفنا دائماً ما يمكن أن نعتبرها مناطق تماس إبداعي.. لكننا بعد مرحلة نجده على
تخوم النص الأول، ثم يفارقه بالكلية، ليكمل بناء كيان آخر، هذا الكيان الآخر يستهدف
-أول ما يستهدف- أن يكون كيان بالأساس متصالح مع ذاته، وبالتالي يمارس درجة أشد من العدوانية على النص
الأول.. فإن كان الإعجاب بالنص الأول مدخله سعيد حجاج القارئ.. فإن المنطق الذي سيسوغ
نفسياً العدوانية على نفس هذا النص هو خبرة كاتبنا المسرحي.. ليرتفع السؤال خبرة كاتبنا
المسرحي بماذا؟! ونجيب بالفعل المسرحي نفسه سواء من زوايا التلقى الجماهيري أو الرقابي..
ولنا هنا وقفة..
فكثير من التعبيرات في الرواية
تستساغ مقروءة أو حتى متداولة بين الشخصيات على الورق.. لكن تجسيدها عبر الحضور الحي
على خشبة المسرح لن يمرر بمثل تلك السهولة.. فما بالك بالافعال؟! لذا فإن الانطباع
الذي سيتولد لدى القارئ للعملين بأن دراما يوسف أبو ريه أكثر حسية بدرجات عن دراما
سعيد حجاج إنطباع صحيح وله ما يبرره.. كذلك
فإن حجم الرواية في بعض الأحيان يسمح لفكرة أن تتسرب عبر الإحالة أو الإرجاء لكن فكرة
الحضور الحي -في المسرح- تستدعي تكثيف وتركيز وضغط معين.. ولا يعني هذا المباشرة بحال..
دعنا نسرع بمثال قبل أن يعترينا المزيد من التجريد.. تخلو الرواية مثلا من إشارات توحي
بمتاعب جنسية تصادف المعلم عثمان، اللهم إلا إذا أعتبرنا شكه وثورته العارمة إبان العلامة
التي وجدها على جسد زوجته إشارة لإهتزاز الثقة بالذات.. لكن الكاتب المسرحي يكفينا
مؤنة جهد تآويلي من هذا النوع في الحوار التالي ..
شمس: هدى نفسك واطلع سريرك .. الصباح رباح ويحلها الحلال .انت تعبان .
المعلم: ماتقوليش تعبان طيب وتفورى الدم فى نافوخى .
شمس: يعنى مانمتش ياسيد الناس .
المعلم: آه باحسب .. وبعدين نوم ايه ده اللى يعتب عينى ياشمس ؟ هو انا كنت دابه
خرسا انا راخر وماعنديش حساسيه ؟ الكلب اللى يدخل جنتى يقطف عنقودها ولا يعمليش حسابى
يبقى انكتب عليه الشقى طول عمره .." صمت "اعملى لى كوباية قهوة بن تقيل ونامى
انت ..
ففي بداية الحوار إساءة تآويل المعلم لحقيقة كونه
متعب على حد توصيف زوجته تعود هي فتوضحها بكونها تعني مجهد من قلة النوم.. وسرعة توافد
التآويل الآخر لذهنه تعني على الأقل إنشغاله بهذا الأمر.. و استكمالا لما طرحناه من
حضور الرواية المتعين في بدايات النص المسرحي.. ثم الانتقال لمرحلة وسط تسوغ فيها الخبرة
المسرحية الانتقال عن مناطق التماس.. لنصل بعد ذلك لنص درامي مسرحي يخالف النص الدرامي
الروائي بات من المنطقي أن يتركز ذلك في النهاية..
فعلى حين ما ينتهي نص يوسف أبورية إلى غياب حودة
الأخرس من القرية بعد أن كشفت له فكيهة عن المكيدة التي تواطأ فيها الجميع بتزويجه
من حمادة.. ينتهي نص سعيد حجاج عند لحظة مصارحة فكيهة له بالخدعة التي يشارك فيها الجميع
ضده.. و بالرغم مما قد يبدو من تشابه بين النهايتين إلا أن المفارقة في أن التشابه
هو ظاهري.. فلدى يوسف أبو رية لا يخدش احد حالة التواطؤ الجمعي، لرغبتهم في الاستمتاع
بما قد يتعرض له، هذا المهرج الذي يطيب للجماعة - على نحو ما- الانتقام من إتكاءه على
عاهته في التحرش بنسائهم، والتعريض بهم في المسامرات اليومية، ولا يكاد يخرج على هذا
الاجماع إلا فكيهة التي تمتلك مصلحة مفارقة لمصلحة الجماعة وهي الفعل الجنسي الانتقامي
الهستريي المؤجل والذي يتم بينها وبين حودة.. والشاهد إن الحالة لدى أبورية هي بحث
أركولوجي في سادية الجماعة التي ينفث عنها كرنفال.. هذا الاحتفال الجمعي الذي يتم فيه
تنصيب وتتويج المهرج لليلة هى -على نحو ما- ليلة عرسه لكنها تنتهي بتجريسة.. والعديد
من الإشارات في النص تحيلنا لحضور الفضاء الكرنفالي.. منها -على سبيل المثال- ما يعرف
بالتجديفات الكرنفالية و يتم فيها اللعب بين المقدس والمدنس.. والرواية تطرح إحتراق
نبي الله كاكا دون أن تكون النار عليه لا برداً ولا سلاما..
بيد ان حفرا من هذا النوع يحيد عنه سعيد حجاج فيميل
عن مناوشة اللاشعور الجمعي.. ويكثف رواءه التفسرية للسلوكيات بميل للسيكولوجيا الفردية..
لذا تبدو محادثة فكيهة وتصريحها له تعاطف فردي مع هذا الذي يخدم الصغير والكبير فلا
ينال منهم إلا الاستهزاء والتحقير.. وهنا نكون امام محاولة للإنتهاء من النص أكثر منها
للاستمرار في مشاكسته..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق